طحّان "دِي"

   في سالف الزمن كان يعيش طحّان في مطحنته الكائنة على ضفّة نهر يدعى نهر"دي". وكان هذا الطحّان من أهنأ الناس وأسعدهم عيشًا في بلاد الإنكليز، يشتغل من الصباح حتّى هبوط الليل وهو يغنّي دومًا، كأنّه بلبل، ويُرى متهلّل الوجه مشرقه، لا تفارقه ابتسامة الفرح والغبطة، ويجعل كلّ من رآه ومن عرفه أو سمع به سعيدًا، حتّى بات حديث جميع الناس في مجالسهم، يروون حكاياته ونوادره المسلّية ومنهج حياته البهيجة، حتّى أنّ أخباره أخيرًا تسرّبت إلى بلاط الملك وإلى ملك البلاد بالذات، الذي قال مرّة سأنزل إلى الوادي حيث النهر وأتبادل وذلك الطحّان العجيب أطراف الحديث، لعلّه يوحي إليّ ويرشدني إلى الطريق الذي بسلوكه يقدر الإنسان أن يكون سعيدًا؛ ولمّا وصل إلى جانب الطاحون سمع الطحّان يغنّي:

   لا أبدًا، لا أحسد أحدًا

   إنّي سعيد أكثر ممّا أريد

   لا أحد يحسدني، لا أحد يمقتني!

فقال له الملك:

- أنت على خطأ يا صديقي، أنت مخطىء إنّني أحسدك! كم أودّ أن أتبادل وإيّاك الوظائف التي نشغلها، لو كنت أصير سعيد القلب جذلًا مثلك!

فابتسم الطحّان وانحنى أمام الملك انحناءة احترام وقال:

- إنّ هذا لم يخطر ببالي قطّ ولن أقبله أبدًا.

فأجابه الملك:

- أودّ منك الآن أن تخبرني عمّا يجعلك دومًا فرحان طروبًا في طاحونك المكسوّة بالغبار، بينما أنا الملك، أراني دائمًا حزينًا مضطرب البال.

فابتسم الطحّان ثانية وأردف قائلًا:

- لا أعلم يا سيّدي سبب حزنك، إنّما أستطيع من دون عناء، إيقافك على سبب سروري الدائم. إنّني أكسب خبزي بكدّي وعملي وأحبّ امرأتي وأولادي وأصحابي وهم أيضًا يحبّونني، ولا دين عليّ لأحد من الناس، ألا يكفي هذا لأن يصيّرني سعيدًا؟ هنا نهر "دي" ومياهه الدائمة الجريان، تدير رحى طاحوني التي تحوّل الحنطة إلى طحين، أطعم منه امرأتي وأولادي!

عند ذلك نطق الملك قائلًا:

- كفى أيّها الطحّان، ابق حيث أنت وكن دومًا هانئًا قرير العين، إنّني أغبطك في عيشك وأحسدك حسدًا محمودًا لا يؤذيك، وغبار قبّعتك أفضل من تاجي الذّهبيّ، وما تناله من طاحونك خير ممّا ينيلني ملكي، وما كان أجمل هذا العالم لو أنّ مثيلك من بني البشر كثيرون، وداعًا يا صديقي!   

   هكذا أنهى الملك زيارته وقفل عائدًا إلى قصره وقلبه حزين!

   أمّا الطحّان فآب إلى عمله مغنّيًا:

   أنا من أسعد الناس في بلادي لأنّني أعيش على ضفتي نهر "دي"!

                       ترجمة يوسف س. نويهض